اعتبرت الشاعرة التونسية عائشة المؤدب إن الشاعر العربي والشاعر التونسي بشكل عام يحمل هموم وطنه، مؤكدة على أنه لا يمكن الفصل بين الشاعر الرجل والشاعر المرأة، إلا أنها أشارت في نفس الوقت إلى ما تعتبره الطبيعة المتشرذمة للمناخ الشعري في تونس.
جاء ذلك في حوار خاص مع صوت الحرية، تناولت فيه المؤدب عدد من القضايا الأدبية والشعرية المثارة حاليا على الساحة.
تونس – خاص – محمد مختار :
- إلى أى حد يحمل شعرك هم المواطن التونسي؟ وهل وظيفة الشعر بالنسبة لك وظيفة فنية فقط أم يحمل الشعر بين أبياته هموم الرجل التونسي والمرأة التونسية؟
- يعيش الشاعر واقعه ويتفاعل معه بطريقة واعية وغير واعية فيظهر ذلك في منجزه الشعري سواء على صعيد الشكل أو المضمون تصريحا أو تلميحا أو تضمينا، أعتقد أن الشاعر لا يمكن أن يعيش حياة منفصلة عن هموم مجتمعه وحتى إن لجأ الى العزلة فذلك ما هو إلا ردة فعل تعبر عن رفضه، والرفض هو موقف من الواقع وتفاعل معه، وباعتبار أني أوكل أهمية أكبر الى كيفية القول على حساب الأهمية التي أوليها الى محتوى القول فإني أهتم بالجانب الفني للكتابة الشعرية في ما يتعلق بالصور الشعرية وببناء النص وبدقائق اللغة التي تمكنني من الوصول الى كتابة نصوص أقرب الى صورتها الذهنية المبيّتة عندي، والأكيد أنني من خلال كل هذه العمليات الفنية الإبداعية أستقي من الواقع القضايا التي تؤثر فيّ والتي أتخذ مواقف إزاءها وذلك واضح وجلي عند المقارنة بين مضامين النصوص التي تضمنها كل من إصداري الأول (قصائد من أجل تونس) وإصداري الثاني (ظلي بقعة حبر) وإصداري القادم (أبحث عن جسدي) ففي كل كتاب منها مواضيع وتفاعلات مع الفترة التي كتبت فيها تظهر في المحتوى وفي الشكل أيضا. كما يدعم ميلي هذا نحو الجانب الفني للنص الشعري أني لا أميل الى الكتابة المباشرة التي تصرح بالأفكار تصريحا واضحا فهذا حسب اعتقادي ليس من الشعر في شيء بل هو دور المقالات والدراسات أو الخطابات التعبوية والتحريضية، فللشعر عدة وظائف متباينة ومتداخلة في نفس الوقت، بعضها ذاتيّ محض وبعضها فنيّ ابداعيّ وبعضها مجتمعي وكله ينصب في كينونة كونية انسانية لا يمكنه الخروج عنها برغم تعدد أنماطه وتنوع مشاربه
- وكيف تنظر عائشة المؤدب لمسار القصيدة التونسية ومستواها
- مرت القصيدة التونسية بمراحل عديدة وكانت في فترات من تاريخها تعتمد على تيارات ومدارس متباينة بعضها متتال وبعضها متزامن بعضها كان مؤثرا وفاعلا وبعضها كان ظرفيا ولم يدم طويلا لعل أهم ما أذكره من هذه التيارات تجربة الطليعة و في غير العمودي والحر، ثم شعراء التسعينيات وفي الوقت الراهن بعض المحاولات لـ”حركة نص” لكن الساحة الشعرية التونسية تتصف بالتشرذم والمنجز الفردي وحسب اعتقادي يتصف الشعر التونسي بالبروز الشخصي لبعض الأصوات على مدى تطوراته وخفوت الصراعات البناءة داخل الساحة الأدبية التونسية نظرا لعدم مواكبة الحركة النقدية للمنجز الشعري المحلي والالتفات المستمر نحو ما يحدث بالمشرق العربي. من ناحية أخرى تأثر الشعر التونسي بالأحداث الكثيرة التي وقعت في تونس خلال السنوات الأخيرة ولحقته الفوضى وظهور موجة من الاستسهال والرداءة على صعيد اللغة والبنية والمضمون وذلك ناتج عن الرجة التي عاشها التونسي فكان من بين أسهل السبل للتعبير عن ذلك هو الكتابة وتزامن ذلك مع سهولة التواصل والبروز عبر الشبكات الاجتماعية ولكني اعتقد انها موجة ارتدادية فحسب سيزول تأثيرها بعد وقت وجيز لكنها ككل تسونامي ستترك خرابا بعدها لابد أن نستعد من الان الى التصدي له
- لا تزال هناك حالة من اللبس بين قطاع لا يستهان به من الشعراء الشباب بين الشعر الحر وبين ما يسمى بقصيدة النثر .. إلى أي مدى يمكن أن تلقين لنا الضوء على الحالة الشعرية التونسية فيما يتعلق بهذه القضية ؟
- من المعلوم أن الشعر الحر مثّل ثورة على الشعر العمودي الذي كان يُعتبر النموذج الوحيد للشعر العربي والقالب المتاح لكتابة الشعر لقرون، من ذلك وقع إلحاق صفة “حر” بهذا النوع من الكتابة الشعرية للدلالة على أنها كتابة متحررة فقد ألغي الرويّ والقافية وألغي الالتزام بعدد محدد من التفعيلات ووقع الانتقال بصريا من نظام البيت الشعري (صدر وعجز) الى نظام السطر الشعري، ومن هنا يأتي اللبس، فقصيدة النثر تتحرر شكلا وبطريقة واضحة من كل ما تلتزم به القصيدة العمودية لذلك وقع في هذا الخطإ كثير من المبتدئين الذين استسهلوا الكتابة الشعرية وأهملوا ضرورة الإطلاع على خصوصيات كل تصنيف فأخذوا بظاهر التسمية التي كانت مناسبة لهذا النوع في الكتابة الى حين ظهور أنماط كتابية أخرى فصارت لا تتناسب مع التطور الحاصل في الكتابة الشعرية. ولعل الخروج من هذا الخلط بسيط ويكون ذلك باللجوء الى التسمية الثانية المعتمدة عند كثير من النقاد وهي تسمية “قصيدة التفعيلة” فيزول اللبس حتى على الجاهل بهذه الحيثيات فهي التسمية الأقرب والأصدق، ولكن مهما يكن من أمر فالجهل بتطور الكتابة الشعرية عبر التاريخ العربي يعدّ نقيصة معرفية فادحة ودليلا واضحا على نقص ثقافي يكبّل صاحبه
- هل يمكن القول بأن ما يسمى ب ( النص المفتوح ) هو امتداد لظاهرة قصيدة النثر ؟ أم أنه شكل جديد من أشكال الكتابة الإبداعية التي تنسب نفسها للشعر ؟
- تعددت التعريفات لما يسمى بـ “النص المفتوح” ولكني أميل الى الاعتقاد القائل بأن هذا المصطلح أقرب أن يكون توصيفا من أن يكون تصنيفا بمعنى أنه صفة يمكن أن تنطبق على نصوص ابداعية من جميع الأجناس الأدبية كالرواية والقصة والشعر وغيرها باعتبار أنه وصف لخاصية داخلية في النص وليس تحديدا لخاصيات تميزه عن بقية الاجناس، النص المفتوح بالمعنى المتداول هو النص الذي يمكن أن يقبل تأويلات متعددة مع احتفاظه بمتانته وبنيته الكلية وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على نصوص أدبي في شتى الأجناس، سؤالك هذا يحيلني الى الاشارة الى أزمة المصطلحات التي يعاني منها الناقد العربي وعدم توحدها فقد يكون ناقدان يقصدان نفس الشيء بمصطلحين مختلفين ويظنان أنهما مختلفان ويتمسك كل منهما بالمصطلح الذي تبناه فيضيع المجهود والفرصة للبناء ولعل مثال الشعر الحر وشعر التفعيلة دليل مناسبة لهذا المقام، هذا السؤال يطرح أيضا إشكالية أخرى أشد خطورة وهي تلقف النقاد والشعراء العرب للمصطلحات الغربية وإسقاطها على المنجز العربي فمصطلح النص المفتوح استعمله الكاتب الايطالي امبرتو ايكو في سياق تحليل نصوص سردية وليست شعرية للروائي جيمس جويس وأعتقد أن هذا المصطلح قد شهد انحرافا فالحديث عن نص مفتوح يفترض بالضرورة الحديث عن نص مغلق وهو ما اشاعه امبرتو ايكو، لذلك بات جليا أنها مقاربة وصفية وليست تصنيفية
- بصفة عامة ألا ترين أن أشكال الكتابة الشعرية التي تعتبر نفسها حداثية أو ما بعد حداثية تضع نفسها في مشهد يختلط فيه الشعر بالنثر لدى القارئ والمتلقي العادي ؟
- مع أني لست مع التوجه القائل بأن الشعر هو حالة فنية نخبوية إلا أني أعتقد أن هناك حدا أدنى من المعرفة والحساسية الفنية المفترضة في القارئ حين يتوجه الى الشعر وتبقى المسألة متعلقة بالذائقة الفردية وبمدى قدرة القارئ على التفاعل مع المنتج الشعري من ناحية ومن ناحية أخرى حسب نظرته لهذا المنتج إن كان يبحث فيه عن فسحة للتفكر والتمعن شكلا ومضونا فيكون هاوٍ ومولع بالمنجز الفكري أو يكون مجرد مستهلك وباحث عن الاستمتاع الآنيّ البسيط لما يثيره الشعر من طرب في النفس، وفي كل الحالات أعتقد أن الساحة الشعرية العربية توفر لكل قارئ ما يبحث عنه وذلك للتنوع الكبير في الكتابة الشعرية وفي توجهات الكتاب العرب، من ناحية أخرى أعتقد أن كل عمل فني عامة والشعر على وجه الخصوص هو ناتج عن تفاعل إنساني مع الواقع الذي يعيشه ففي زمن اختلطت فيه المفاهيم وتداخلت المبادئ ولم يعد للبديهيات القدرة على المقاومة واصبح الواقع يسابق الخيال من حيث الاختراعات العلمية والثورة التكنولوجية من جهة ومن جهة أخرى الأحداث المتلاحقة والأعمال الإجرامية التي فاقت كل تصوّر، في ظل كل هذا يكون المنتج الفني منسجما مع هذه الفوضى بمحاولة للحصول على حالة من التوازن بين الذات الفنية المرهفة والحساسة للفنان والواقع المتسارع نحو المجهول، الشاعر يقف أمام كل هذا بروح شفافة ولا يملك إلا اللغة ليشهرها دفاعا عن نفسه ولعل هذا التداخل بين النثري والشعري هي صرخة فزع تطلقها اللغة التي لم تعد قادرة بمضامينها التقليدية على استيعاب هذا الواقع فصار لزاما أن تتطور وأن تولد أصناف أدبية جديدة تتماهى مع واقعها شكلا وفكرا ولغة وعلى القارئ العربي أن يتخلص من انجذابه نحو الماضي ويدخل المغامرة مع الشاعر في نسج أعمال شعرية تقول الواقع وتصوره
- كشاعر امرأة .. هل يمكن القول أن هناك شعر مؤنث وشعر مذكر ؟ وهل هناك أغراض شعرية لا يستطيع الشاعر الرجل أن يعبر عنها بينما تستطيع الشاعرة المرأة الكتابة حولها ؟ والعكس ؟
- تعددت التعريفات لهذا المفهوم وتنوعت فالبعض يكتفي بالتصنيف باللجوء الى الشاعر إن كان امرأة أو رجلا والبعض تجاوز ذلك بالنظر الى مضمون النصوص إن كانت تعالج قضايا متعلقة بالمرأة من حيث الدفاع عن حقوقها والوقوف الى جانبها، ولكني اعتقد انها قضية زائفة وأن هذا التصنيف أو ذاك لا يضيف للنقد الأدبي شيئا وليس مهما الوقوف عنده كثيرا واعتباره علامة فارقة في التعامل مع النصوص الشعرية فكثر هم الشعراء الرجال الذين أبدعوا في استعارة صوت المرأة في نصوصهم وتكلموا باسمها وعبروا عن مشاغلها الفكرية والنفسية والاجتماعية وكثيرات من الشاعرات وصلن بالنصوص الشعرية مدى عال من الاتساع والإتقان تغني عن النظر إلى جنس كاتبها فتكون موضوعية أو كونية إنسانية تعبر عن الإنسان بمعناه العام والشامل، وأعتقد أن الناقد يجب أن يتهيأ بحس محايد في التعامل مع نصوص تكتبها شاعرة وأخرى يكتبها شاعر لأن هناك اعتبارات تسيء للعمل النقدي الموجه للشعر الذي تكتبه المرأة يتراوح بين التقزيم والمجاملة عوضا من النقد والتقييم. وللتصدي لهذه الظاهرة وجب على المرأة الشاعرة أن تضع هذا الأمر في اعتبارها وأن تعبر عن ذاتها في نصوصها فلا تتقمص صورة الرجل ولا تغتر بالمجاملات أو تنهار أمام التقزيم ولا يكون ذلك إلا بالعمل على مشروع شعري يتطور وينمو مع تطور التجربة واكتساب الخبرة اللازمة
- في ضوء تجربتك في الكتابة للأطفال كيف ترين الطفل كمتلق للعمل الإبداعي بشكل عام ؟ هل هو متلق سهل التجاوب مع النصوص التي تقدم له ؟ ام هو متلق صعب المراس ؟
- الطفل هو المرآة الصادقة للعمل الفني فهو لا يجامل ولا يعادي ولا يكذب ويتعامل مع العمل الإبداعي المقدم له بتلقائية وعفوية فكلما كان العمل الإبداعي محترِما لعقل الطفل فيأخذ خصوصياته الذهنية وحاجياته الوجدانية والنفسية بعين الاعتبار كلما كان إقبال الطفل عليه مضمونا وتفاعله معه إيجابيا لذلك وجب التساؤل حول مدى ملاءمة المؤلفات المتوفرة للطفل عوضا عن التساؤل إن كان الطفل متلق سهل التجاوب أو صعب المراس ومن ذلك ان يسلح المقبل على الكتابة للطفل بمعرفة خصائصه النفسية وحاجياته الوجدانية التي تختلف من بيئة الى أخرى ومن ظرف الى آخر. غير أن تعامل الطفل مع النصوص المكتوبة تقف أمامها عدة عوائق أهمها مدى توفر القدرة على القراءة ومدى تآلف الطفل مع ما هو مكتوب بتوفر الراشد الذي يمكنه من اكتشاف هذا العالم الخفيّ بالنسبة للطفل فتفاعل الطفل مع النصوص الإبداعية المكتوبة مرهونة بإجادة القراءة باعتبار أن الكتابة هي رموز تتحول بفعل عملية ذهنية معقدة الى اصوات ثم الى معاني ومدلولات وهو ما يفسر صعوبة قبول الطفل في مراحله العمرية الاولى للكتاب كحامل للعمل الابداعي المكتوب لذلك توجّب تطعيم الكتب الموجهة للطفل بالرسوم التي يسهل التعامل معها وبالالوان التي تجلب انتباهه وفي بعض المنتوجات الأخرى بالصوت الذي يوفره التقدم التكنولوجي فدخل بقوة في المنتجات الموجهة للطفل. الكتابة للطفل تجربة ممتعة وصعبة خاصة في كيفية تطويع الافكار والقيم والمهارات الحياتية التي خبرها الكاتب ويريد تمريرها الى الناشئة عن طريق الكتاب بطريقة تجعل الطفل يترك كل الملهيات الاخرى ـ وما أكثرها في عصرنا الحالي ـ حتى نرى الطفل يمسك كتابا يقلب صفحاته ويتفاعل معه. ومن هنا تأتي خطورة وأهمية دور كاتب أدب الطفل فهو بصدد تكوين قارئ الغد إذا نجح في تقريب الكتاب من الطفل وإذا لم ينجح في ذلك يكون أحد أهم الأسباب في فقدان ذلك القارئ.
- لا تزال ظاهرة الشللية في المجتمعات الثقافية العربية مسيطرة على المشهد الثقافي حتى بعد ثورات التغيير التي شهدتها دول عربية وفي المقدمة منها تونس .. كيف ترى عائشة المؤدب هذه الظاهرة وهل عانت منها ؟ وكيف يمكن التغلب عليها ؟
- أعتقد أنها ظاهرة دائمة في مجتمعاتنا العربية التي تكون العاطفة هي المحرك الأكبر للفعل ويغيب الحياد والموضوعية بدرجة كبيرة لذلك لا أتوقع أن تندثر هذه الظاهرة قريبا ما لم نغيّر من أنفسنا ومن عقلية الغاء الاخر حين لا يشاطرني التوجه ومن عقلية الثأر عند انقلاب الموازين، أنا أتعامل مع الامر كواقع لا يمكن التغافل عنه ولا أتوقف طويلا عنده لأني أركز على منجزي الشعري وأعمل على تحقيق مشروعي الأدبي وتطوير نصي وإثراء تجربتي، الشللية تضمن في اقصى حدودها “نجومية” حينية تنطفئ بمجرد مرور بعض الوقت ولكنها لا تؤسس لحركة فكرية أو توجه أدبي واضح وقويّ ولا يبقى من التجارب التي بنت نفسها ويبقى جانب الاعتراف بها واظهارها قائما لول بعد حين.